موضوع: أهل الفضل والعناية الخميس سبتمبر 17, 2015 5:01 pm
إن الله الذي يأمرك بالتوبة ليغفر لك ويوفقك، ألا يجب عليك شكره؟ ونحن نحتار فيمن قدَّم لنا خدمة، كيف نشكره؟ هل نهديه؟ ونتشاور ما الهدية؟ ما المناسبة والخدمة التى أدَّاها لي؟ فمن منا يستطيع أن يحسب الخدمات التي قدمها لنا ربنا عز وجل؟ إن كانت في الدين أو في الدنيا أو في الآخرة؟ من يستطع أن يحسب هذه النعم؟ {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} إبراهيم34
انتبهوا للآية، لم يقل {وإن تعدوا نعم الله} إنها نعمة واحدة فقط .. انظر إلى نعمة البصر، أو نعمة السمع، أو نعمة الكلام، أو نعمة الإيمان، أو نعمة الهداية .. نعمٌ لا تُعد ولا تحصى، فإن لم يكن المرء شاكراً على هذه النعم، فعلى الأقلّ يكون شاكراً لمولاه، ومن يشكر مولاه ماذا يفعل معه؟ {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} إبراهيم7
فالشكر باب المزيد، ولذلك جعلناه محوراً هاماً في التربية الإيمانية وأسرار الإصلاحات القلبية التي عليها المعول لحل المشاكل الحياتية، فكلما شكر يزيده من هذه النعم مادام هو شاكراً لله على نعمه، فكيف نشكر على هذه النعم الإلهية؟ وانتبهوا لهذه الإجابة التالية، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لنا في حديثه المبارك: {الإسلامُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ – أى توحِّده- ولا تُشْرِكَ بهِ}{1}
واعتنوا بفهم المعنى لأنه يغيب عن الكثيرين، الإسلام أن تسلم لله ولا ترى سواه فاعلاً ولا غيره متصرفاً فتوحده ولا تشرك معه أحداً، عندها تستحق منه كل العون والعطف والزيادة التي تريد، والخير الذى تصبو إليه لتكون سعيد. ونوضح أكثر فنقول: أى ترى الأفعال في نفسك وفي مالك وفي أهلك وفي ولدك وفي حقلك وفي أى شيء في الدنيا لك ولغيرك هي من الله، وإياك أن تظن في لحظة أن هناك أحدٌ من العباد يقدر أن يضرّك بدون إذنه، أو يقدر أن ينفعك بدون إرادته، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الجامع المانع: {وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ}{2}
قد يمرض الرجل، وأولاده به بررة، وأهله يحبوه ويريدون أن يذهبوا به لأى مكان ويدفعوا له أى مبلغ من المال، والمهم أنه يُشفى .. وهو عز وجل قدّر له أنه سيرجع إلى الله، ماذا يفعلون؟ الأطباء الذين يذهبون إليهم لا يستطيعون أن يفعلوا له شيئاً .. لماذا ؟ لأن ما يصير هنا هو أمر الله جلّ في عُلاه .
فلا بد للإنسان أن يعلم علم اليقين أن الفعال هو الله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} النحل53 فإياك أن تتباهى بنفسك وتقول: أنا رجل شاطر، أنا رجل ماهر، أنا عقلي لايوجد مثله عقل، إذاً فمن الذى صنعه وخلقه ووجهه؟ كذلك نظري ليس له مثيل .. من الذى صنعه؟ وكيف لو أن نقطة وقعت عليه ماذا يفعل أطباء الدنيا كلها؟ ماذا يفعلون؟ لايستطيعون فعل شيء، يقول: أنا أسمع دبيب النملة، من الذي خلق فيك السمع، وأصلح السمع، ويوالى السمع؟ ولو تخلى عنه لحظةً تصير أصمّاً. يقول : ليس هناك قوّةً مثل قوّتي، من الذى أعطاها لك؟ لو كان من الأكل لكان الأكل يعطي قوةً للذي يأكل، لكن القوة من الله والأكل هو سبب إذا جعل فيه الله سرّ القوّة التى تُقوّى العبد، فإذا أخذ منه سرّ القوّة ولو كان هذا الأكل كله فيتامينات فلن يؤثر في الإنسان ولا يستطيع أن يتحرّك ولو حركة واحدة لأن المُحرّك للكل هو الله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يونس22
فالمفروض أن الفضل تنسبه إلى الله، فماذا أنسب لنفسي؟ أنسب لنفسي الذنب، والمعصية، والغفلة، والجهل: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} النساء79 نعود كما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف؟ الرجل يقول: يا فلان زرعك هذا العام كان ماشاء الله أحسن زرع في البلد، فيقول له: طبعاً، أنا وضعت السماد وعملت بهمة عالية وينسى فضل الله وتوفيقه وهنا الخطأ، فالواجب أن تقول: هذا بتوفيق الله ومعونته، قد وفقني الله لعمل كذا وكذا، فيذكر أولاً توفيق الله ومعونة الله، لأنك قد تعمل كلَّ ذلك، ولا يصحُّ أو تهاجمه الآفات.
مثالٌ آخر .. يقول الرجل : أنت يا شيخ فلان كان صوتك في العزاء مثل الكروان، من الذي أعطاه هذا الصوت وجمّل هذا الصوت؟ ويُشرف على هذه الحنجرة ليخرج الصوت جميلاً؟ هو الله، فلو وضع في الحنجرة مرضاً خفيفاً ينتهي الصوت، فماذا يقول؟ يقول : هذا من فضل الله ومن كرم الله ومن نعم الله.
وآخر يقول : يا فلان إبنك ما شاء الله حصل على 99 %، إذا كان غافلاً سيقول: لقد أعطيته دروس فى جميع المواد وصرفت عليه كذا، وينسى فضل الله، أما إذا كان ذاكراً شاكراً من الصالحين أو الصادقين فسيقول: هذا من فضل الله، صحيح أنا عملت له كذا وكذا، لكن لولا فضل الله لما تمّ المراد، لأن المراد لايتم إلا بفضل الله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} النور21
فينسب الإنسان كل شيء لربه عز وجل، هل نستطيع أن نفعل ذلك؟ هذا أول درس أعطاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام وقال: {اللهم لولا الله ما اهتدَينا، ولا تَصدَّقْنا ولا صلَّينا، فأنزِلن سكينةَ علينا، وثَبِّتِ الأقدامَ إن لاقَينا}{3}
فالسبب في الهداية الهادي عز وجل، فلو ذهب الهادي وجاء المضلّ .. أنا وأنت ماذا نفعل؟ لو أن المضلّ جاء لأحد الأولاد ماذا تفعل؟ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} القصص56 لن تقدر أن تفعل شيئاً لا أنت ولا أنا ولا أحدٌ أبداً، من منا يستطيع أن يُهيمن على القلوب أو يدخل عليها؟ من الذي يحرك القلوب؟ إنه علام الغيوب عز وجل: {إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه كيف يشاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ مصرِّف القلوب، اصرف قلوبنا إلى طاعتك}{4}
فالإنسان لكى يُوَّحد الله توحيداً حقيقياً لا بد أن يعمل بقوله عز وجل: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} النساء79 فينسب الفضل كله لله، فأنا خطبت الجمعة اليوم، وهل أنا حضّرت لها من أسبوع؟ لا والله، فأنا ليس معي شيئاً ولا أملك شيئاً، لكن الموضوع هو أن الواحد منا يقف أمام الله ويقول: أنا الفقير وأنت الغني، أنا الجهول وأنت العليم، أنا الضعيف وأنت القوي، يا غني أغنِ الفقير، يا عليم علِّم الجهول، ياقوي قوِّ الضعيف
وعندها ففى الحال يلهمك بالكلمات، وهو يمدُّك بقوة الصوت والنغمات والحركات، وهو الذى يتولَّى حفظ الإنسان من الهفوات، الإنسان كثير الهفوات وخاصة زلات اللسان، مَن الذي يحفظك منها غير حضرة الرحمن عز وجل. ولذلك سيدنا موسى نفسه قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} القصص24 فقال له: {يا موسى سلني عن ملح قدرك وعلف شاتك}{5}
يعني عندما تحتاج الملح أو العلف وهو في الدكان فارجع لي لكى أجعل صاحب الدكان يفتح حانوته وتجده غير مشغول بغيرك وعنده ما تريد فيعطيه لك، لكن لو لم ترجع إلىّ فتطوف على حوانيت البلد كلها والبلاد التى من حولك، وتجدهم كلهم مغلقين، أو ليس عندهم طلبك، أو تفقد المال، فماذا تفعل؟ ارجع إلىَّ في كلِّ شيء
فسيدنا موسى أخذ هذا الدرس، وعندما آلمته أسنانه قال: يا رب ماذا أفعل؟ فقال له: إذهب إلى أرض كذا فيها نبات صفته كذا وخذ منه وضعه على أضراسك فتشفى بإذني، فذهب إلى الأرض وأتى بالنبات ووضعه على أسنانه فشُفي، وبعد فترة آلمته أضراسه مرةً ثانية، فقال في نفسه: أنا عرفت الطريقة، ولم يرجع إلى الله، والله يريدك أن ترجع دائما إليه في كل صغيرة وكبيرة، تريد أن تأكل فلا بد وأن تقول بسم الله، فلو لم تقل بسم الله ممكن أن يجعل لقمة واحدة تقف في حلقك، فماذا تفعل؟ لا الماء ينزلها ولا الطبيب يستطيع أن يفعل لها شيئاً
لو وقفت الأجهزة التى فيك فهل أنت الذى تشغلها؟ هل أنت الذى سيشّغل المعدة للهضم؟ هل أنت من يشغّل اللسان لكى يتذوّق الطعام؟ هل أنت الذي تحرّك اليد لتمسك وترفع اللقمة؟ غير قوة الرحمن فهو عز وجل قائمٌ بكل شيء، ولكن عندما تُسمّى الله. فعندما أتى سيدنا موسى بالنبات ووضعه على أضراسه، زاد الألم فتذكر وقال: يارب لِمَ زاد الألم؟ فقال له: يا موسى في الأولى رجعت إلينا فجعلنا الشفاء في النبات، وفى الثانية لم ترجع إلينا فنزعنا الشفاء من النبات.
إذا مرضت تقول أنا أعرف الطبيب فلان، وأعرف مكان الصيدلية، والعلاج معروف، الطبيب والعلاج هذا سبب، وأى سبب في الوجود لا يتحرّك إلا بأمرٍ من مسبب الأسباب عز وجل، فإذا قال : إشفِ، يشفى، وإذا قال : توقف، يقف الشفاء، فلا بد قبل الرجوع إلى السبب أرجع لله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} الشعراء80 قبل الطبيب وقبل الدواء
يقول الرجل : أنت يا فلان كيف شفيت؟ يقول له: ذهبت للطبيب فلان وكتب لي الدواء فأنا شفيت بسببه ببركة الطبيب، هذا نسي مسبب الأسبابعز وجل .. لا، بل أنا أقول : بفضل الله .. وبمنّ الله علىَّ وبمعونة الله لى .. ذهبت إلى الطبيب فلان وكتب كذا وتمّ الشفاء، أرجع أولاً لله وقبل أن أتناول الدواء أقول: بسم الله الشافي المعافي لأن الشافي المعافي لو وضع سرّه في الدواء يتمّ الشفاء، لكن لو أخذ الله من الدواء سرَّ الشفاء فمن أين يأتي الشفاء؟
فالإنسان يرجع لله في كل الأحوال، فسيدنا موسى بعد ذلك يرجع لله في كل شيء، أخذ الدرس واستوعبه من أول النظر إلى وجه الله حتى رغيف العيش، ذهب لمدين وصنع جميلاً للبنات وسقى لهم وجلس ويريد أن يأكل، فلم يدر على البيوت ويقول: أريد طعاماً، ولكن ماذا قال؟ قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} القصص24
أنا أريد أن آكل يارب، فربنا على الفور قذف في قلب شعيب وقال لإحدى بناته: اذهبي إلى هذا الرجل ليأتينا لكى نعطيه أجره على العمل العظيم الذى عمله لكم: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} القصص25 مَن الذي وجَّه القلب؟ الرب عز وجل وفوق ذلك الطعام طلب سيدنا موسى من الله متعة خاصة إلهية فقال: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} الأعراف143 وهنا مشهد عالٍ، انظر: من أول النظر إلى وجه الله إلى رغيف العيش، كله من أين؟ من الله، وأين نحن من هذا؟
وهل معنى ذلك أني لا أطلب من الخلق؟ أنا لم أقل ذلك، وانتبهوا لقولى، ماذا أقول؟ نطلب من الأسباب ولكن ننسب الفضل أولاً إلى مسبِّب الأسباب عز وجل، لأننا لم نستغن عن بعض، ونحن كلنا نحتاج إلى بعض، ولكن لا ننسب الفضل لبعض إلا بعد أن ننسب الفضل أولاً لله وهذا هو المطلوب منا، وهذا شيءٌ سهلٌ ولكن يحتاج إلى إنتباه الإنسان مع الله، وهذا معنى أن توحدّه ولا تشرك به شيئاً وأن تطيعه، يعنى تنفّذ شرعه الذى أمرك به الحَبيب المُصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا تعصاه أى لا تخالف الشريعة، لأن مخالفة الشريعة همٌ في الدنيا ونكدٌ في الدنيا والعياذ بالله وخزىٌ في الآخرة، فكل المشاكل التي نحن فيها إن كان أفراداً او أسراً أو المجتمع سببها الأساسي مخالفة الشريعة.
{1} صحيح البخاري عن أبى هريرة من حديث طويل عن الإسلام والإيمان والإحسان {2} سنن الترمذي عن ابن عباس {3} صحيح البخاري عنِ البراءِ رضي الله عنه {4} مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما {5} تفسير الرازي والألوسى